ِمن سنين طويلة مضت ُكنت أعمل في إحدى المرافق الخدمية بالمشاعر
المقدسة ، وقد رأيت حينها أموراً عجباً .. لصقت في ذهني وفهمت منها دروساً لا ُتنسى ..
وكان الحدَث الأوّل حين حصلت حادثة نفق المعيصم في منى ومات فيها مئات الحجاج إختناقاً ودهساً ُمعظمهم من النساء والعجائز ، .. وكنت مُكلفاً يومها بالإشراف على نقل الموتى الُحجاج من تريلات ُمكدسة بالمئات منهم إلى ُمستشفى عرفات ليتم دفنهم هناك .. ولاحظت أن كثيراً من النساء اللواتي ينقلهن الُعمال لم يُكنّ ُمتسترات بالملابس الداخلية تحت ثيابهن ( غفر الله لهن وكتبهن من الشهيدات عنده ) .. حتى إن إحداهن بانت عورتها الُمغلّظة بعدما أنكشف ثوبها الوحيد الذي عليها من جرّاء تكديس الُجثث على بعضها البعض في التريلات ..!!
لكن الغريب في الأمر هو ما رأيته من شأن فتاة أظنها لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها ، فقد كانت عند نقلها من تحت الجثث ( وياللعجب ) مازال الحجاب ُيغطي شعرها بالكامل .. بل حتى ثوبها مازال يغطي كل جسمها كأنها واقفة رغم أنها كانت تلبس تحته بيجامة طويلة لأسفل قدميها .. فلم يظهر منها إلاّ كفيها وقدميها ووجهها البريء الخالي من علامات الفزع المعروفة في هذه الحالات ..
ُقلت في نفسي يومها : ُسبحانك ربي ما أعدلك ، النساء اللاتي أهملن حجابهن وتسُترهن في الدنيا لم ُتبالي بما انكشف منهن في موتهن ... والفتاة التي َحَرصت على تضمين حجابها وما يسترها في حياتها .. لم تخذلها في مماتها حتى في أسوأ الظروف فسترتها ولم ُتري منها إلاّ ما سمحت هي به في حياتها ... ُسبحانك ما أعدلك وأعظمك ..
وقد تذكرت حينها تلك الصحابية الجليلة التي أبتلاها الله بالصرع ، فجاءت الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام تطلب منه الدعاء لها بأن لا تتكشف حين تأتيها النوبات .. كانت صادقة في طلبها وتوجهها فصدقها الله وسترها ، حتى في نوبات صرعها لم ينكشف منها شيء ..!!
أمّا الحدث الثاني فقد رأيته بعد حريق ِمنى الشهير الذي أحترقت فيه ألآف الخيّام في ُمسطحات كبيرة لم ينجُ منها شيء .. ومات حينها أيضاً مئات الحجاج .. لكن الشاهد هنا هو ُدكان وسط مئات الدكاكين وألآف الخيام التي أحترقت عن بكرة أبيها .. هذا الُدكان المبني من صاج خفيف وخشب مثل غيره من الدكاكين الُمحيطة به لم يحترق أبداً .. فقد توقفت النار العظيمة الهائلة بأمر من ربها عند حدوده فسلم وسلمت البضاعة التي فيه .. وصاحبه الُمسلم العادي جاء بكل هدوء وطمأنينة بعد إنتهاء الحريق لُيعيد ترتيب بعض البضائع التي تأثرت من الريح أو من ماء الإطفائيات ..!!
ُقلت حينها ُسبحانك ربي ما أعدلك وأرحمك وأعظمك ، وتذكرت قصة الَخِضر والجدار الذي يريد أن ينقضّ فأقامه عليه السلام بأمر منه عزوجل لأنه كان تحته كنزٌ لولدين يتيمين كان أبوهما صالحاً ..
وتذكرت ذلك الصحابي الجليل الُمطمئن لحفظ الله له ولبيته بعد ما عوّذ نفسه وأهله وماله صباحاً واستودعهم الله الذي لا تضيع حوائجه قبل خروجه .. وقال لمن جاء ُيحذره ويخبره بأن بيته إحترق : لا .. لم يحترق بيتي فهو في حفظ الله .. وفعلاً رجعوا فوجدوا بيته توقفت عنده النار ولم تدخله أبداً ..!!
لا ُأحب أن أكون في موقف الواعظ ، فأنا أوّل الُمقصرين .. لكنها حقيقة أبدية كونية عادلة َخَلقَ اللهُ الكون عليها تتحدث عن نفسها ويراها ُكل ذي بصيرة في حياته اليومية : وهي ماورد عن الُمصطفى صلى الله عليه وسلّم بأنّ :
" البر لا يبلى والإثم لا ُينسى والديان لا يموت وُكن كما شئت ..... كما تدين ُتدان "
اللّهم ياربُ يا ديّان يا خالق الأكوان وُمبدعها طهّر قلوبنا من الخبائث ، واجعلها نقيةً بيضاء لا ضغينة فيها على أحد ، واكتب لنا الإخلاصَ والصدقَ في أعمالنا الُمستترة عن أعين الناس واجعلها خيراً من أعمالنا الجليّة الظاهرة ، وُكن معنا في حياتنا ومماتنا ويوم عرضنا عليك يا ستّار يا عظيم يا منّان .. يارب العالمين .